الجمعة، 19 مارس 2021

كيف تنظر إلي نفسك

 كيف تنظر إلي نفسك


مع تقدمنا في العمر یزداد میلنا لوضع حدود للمدى الذي یمكننا أن نمضي فیه في حیاتنا، وبمرور السنین نستبطن انتقادات الآخرین وشكوكهم؛ فإذا قبلنا ما نظنه حدودًا لذكائنا وقدراتنا الإبداعیة؛ فنحن نصنع داخلَنا قوة ضاغطة تتحقق من تلقاء ذاتها،وتصبح تلك الحدود حدودًا لنا، ولا حاجة بك إلى أن تكون متواضِعًا منزویًا للغایة في هذا العالم، فهذا التواضع لیس فضیلة؛ بل هو أقرب إلى قیمة یروج لها الآخرون؛ سعیًا لإبقائك في منزلةٍ دونهم، ومهما كان ما تقوم به الآن فالواقع أن في استطاعتك القیام بما هو أكثر منه، فإذا اعتقدت ذلك فستصنع قوة ضاغطة مختلفة كل الاختلاف.

وفي الأزمنة القدیمة شعر كثیر من القادة العظام من قبیل الإسكندر الأكبر ویولیوس قیصر بأنهم یتحدرون من الآلهة، وأن فیهم شیئًا من القداس، ویتحول هذا الإیمان بالنفس إلى مستویات عالیة من الثقة؛ یتغذى بها الآخرون، ویعترفون بها، ویصبح الأمر نبوءة تتحقق من تلقاء ذاتها، ولا یتوجب علیك الاستسلام لهذه الأفكار الجامحة، إلا أن شعورك بأنك معدٌّ لشيء عظیم أو مهم سیمنحك شیئًا من المرونة إذا عارضك الناس أو قاوموك؛ ولن تستبطن الشكوك التي تساورك في تلك اللحظات، فستكون لدیك روحٌ مبادِرة، وستدأب على تجربة أشیاء جدیدة حتى لو كان فیها مجازفة؛ لثقتك بقدرتك على استعادة توازنك إذا أخفقت، ولشعورِك بأنك معَدٌّ للنجاح.

 

وعندما جاء الإلهام إلى تشیخوف بالحریة المطلقة -التي یمكن أن یصنعها لنفسه- كان لدیه ما یدعوه الاختصاصي النفسي الأمریكي أبراهام ماسلو: تجربة الذروة، وهي اللحظات التي تترفع فیها على صخب الحیاة المعتاد، وتحس بأن هناك شیئًا أعظم في الحیاة، وأكثر رفعة، كنت تفتقده في حیاتك، وفي حالة تشیخوف اشتعل فیه ذلك نتیجة أزمة مرت به، ونتیجة وحدته، فأودتا به إلى الإحساس بتقبُّل الناس والعالم المحیط به تقبلًا كاملًا.

ویمكن لهذه اللحظات أن تأتیك عندما تجهد نفسك فیما هو أبعد مما كنت تظنه حدودًا لك؛ ویمكن أن تأتیك بعد أن تتغلب على عقبات كبیرة، أو تتسلق جبلًا عظیمًا، أو تسافر في رحلة إلى ثقافة مختلفة جدا عن ثقافتك، أو تأتیك من الترابط العمیق الذي تجده في أي صورة من صور الحب، وعلیك أن تمضي بتأنٍّ في البحث عن هذه اللحظات، وتثیرها في نفسك إذا أمكنك ذلك، وكما حصل مع تشیخوف فإن لهذه اللحظات تأثیرها في تغییر موقفك إلى الأبد، إنها توسع ما تظنه في إمكانیاتك، وما تظنه في حیاتك نفسها؛ ولك في الذاكرة مرجع دائم تنال منه الإلهام الكبیر.

 

وهذه الطریقة في النظر إلى نفسك تتناقض بصورة عامة مع الموقف الفاتر الساخر الذي یحب كثیر من الناس إظهاره في عالم ما بعد الحداثة؛ حیث لا طموح كبیرًا أبدًا، ولا إیجابیة كبیرة أبدًا تجاه الأشیاء والحیاة؛ وحیث التظاهر الدائم باللامبالاة، وبالتواضع الزائف كل الزیف. وهذا الصنف من الناس یرى في الموقف الإیجابي الرحب سذاجةً وبلاهة، والحق أن موقفهم الفاتر ما هو إلا قناع ماكر یخفون به مخاوفهم الكبیرة؛ من تقبُّل الآخرین، أو الإخفاق، أو إظهار قدر كبیر من العاطفة. وكحال كل المیول المشابهة في ثقافة الناس فإن مصیر الموقف الفاتر هو الاضمحلال، إنه من خرائب القرن الحادي والعشرین. وإذا تحركت في الاتجاه المعاكس له فإنك تكون أكثر تقدمًا وتحررًا.

 

ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات

شركاء في التغيير

مروا من هنا

Blog Archive

قائمة المدونات الإلكترونية