الموقف السلبي
تمتلئ الحیاة في صمیمها بالفوضى، فلا یمكننا توقع مجریاتها؛ إلا أن الإنسان لا یستجیب بصورة جیدة للشك؛ فالناس الذین یشعرون بأنهم ضعفاء جدا وسریعو التأثر یمیلون إلى تبني موقف تجاه الحیاة یضیق تجاربهم، فیقللون بذلك من احتمال وقوع أحداث غیر متوقعة، وغالبًا ما یكون لهذا الموقف السلبي القابض جذوره في الطفولة المبكرة؛ فبعض الأطفال لا یجدون إلا قلیلًا من التشجیع والمساندة في مواجهة العالم المخیف، فتتطور عندهم أسالیب نفسیة مختلفة لتضییق ما علیهم رؤیته وتجربته، ونراهم یبنون دفاعات متقنة، تمنع وجهات النظر الأخرى من الدخول في عقولهم. ویصبحون منشغلین بأنفسهم أكثر فأكثر، وفي معظم الحالات یتوقعون الأشیاء السیئة، وتدور أهدافهم في الحیاة حول إحباط التجارب السیئة وتحییدها لیستطیعوا التحكم بها جیدًا، ومع تقدمهم في العمر یصبح هذا الموقف عندهم أكثر رسوخًا، وأكثر ضیقًا، مما یجعل حدوث أي نوع من النمو النفسي أمرًا مستحیلًا تقریبًا.
ولهذه المواقف قوة ضاغطة في إتلاف النفس، وصاحبها یجعل الآخرین یشعرون بالعواطف السلبیة نفسها التي تهیمن على موقفه؛ فیساعد ذلك في تثبیته على معتقداته في الآخرین إذ یظهرون تجاهه عواطف سلبیة، ولا یرى الدور الذي تقوم به تصرفاته، وكیف أنه غالبًا من یثیر الاستجابة السیئة، فكل ما یراه هو اضطهاد الناس له، أو الحظ العاثر الذي یغلبه، وبتنفیره الناس منه تتضاعف صعوبة تحقیق أي نجاح له في الحیاة، فیزداد موقفه سوءًا نتیجة عزلته، لقد عَلِق في حلقة مفرَغة.
ونذكر فیما یأتي الصور الخمس الأكثر شیوعًا للموقف السلبي، واعلم بأن العواطف السلبیة فیها قوة دمج؛ فالإنسان الغاضب یكون أكثر میلًا من غیره إلى الشعور أیضًا بالتشكك،
والمخاوف العمیقة، والاستیاء، وما إلى ذلك؛ لذلك فإننا غالبًا ما نجد دمجًا من هذه المواقف السلبیة المختلفة، وكلٌّ منها یغذي الآخر ویعززه، وهدفك هو أن تمیز العلامات المختلفة لهذه المواقف الموجودة فیك بصورة مستترة ومخففة، وتقتلعها من نفسك؛ أما إذا أردت أن تراها بصور أوضح في الناس الآخرین، فالأفضل لك أن تفهم أولًا وجهة نظرهم في الحیاة؛ وتتعلم كیف تعامل الناس من أصحاب هذه المواقف.
1- الموقف العدواني: یبدي بعض الأطفال موقفًا عدوانیا في سنٍّ مبكرة جدا، فترى أحدهم یفسر الفطام وانفصال أمه الطبیعي عنه بأنه تصرف عدواني، وهناك أطفال كتب علیهم معاملة أب یحب معاقبتهم، وإصابتهم بالأذى؛ وفي الحالتین: یطل الطفل على عالم یبدو له مشحونًا بالعدوانیة، ویكون جوابه علیه هو السعي إلى السیطرة علیه، بأن یصبح هو نفسه مصدر العدوانیة؛ فعلى الأقل لن تعود العدوانیة عشوائیة، ومفاجئة للغایة، فإذا تقدم في العمر فإنه یصبح بارعًا في إثارة الغضب والإحباط في الآخرین، فیبرر بذلك
موقفَه الأصلي بثوران الآخرین وإحباطهم وبلا سبب واضح فتراه یقول أترَون: هؤلاء الناس ضدي أي إنني مكروه.
وفي العلاقة الزوجیة، یتهم الزوج صاحبُ الموقف العدواني زوجتَه بأنها لا تحبه حق المحبة؛ فإذا عارضت قوله واتخذت موقفًا دفاعیا فإنه سیرى في ذلك علامة على أنها تحاول جاهدة إخفاء الحقیقة بعدم حبها له في ظنه، وإذا أُجبرت على السكوت فإنه یرى في ذلك علامة على أنه كان على حق منذ البدایة. ونتیجة الارتباك الذي یصیب الزوجة، فمن السهل أن تبدأ بالشعور بشيء من العدوانیة من جانبها؛ فتثبت بذلك رأیه فیها، ولدى أصحاب هذا الموقف حیل كثیرة أخرى في جعبتهم لاستفزاز العدوانیة التي یریدون في سریرتهم أن یشعروا بأنها موجهة ضدهم؛ فترى أحدهم یتراجع عن التعاون في مشروع في أسوأ اللحظات، أو تراه یتأخر باستمرار، أو یقوم بعمله على أسوأ حال، أو یتعمد إعطاء انطباع أولي سلبي، لكنه لا یرى أبدًا أي دور له في استثارة رد الفعل.
وتتغلغل عدوانیته في كل شيء یفعله؛ في الطریقة التي یجادل فیها ویستفز الآخرین فهو دائمًا على حق؛ وفي دعاباته ذات المسحة البغیضة؛ وفي طمعه الذي یستجلب به انتباه الآخرین؛ وفي المتعة التي ینتشي بها إذ ینتقد الآخرین ویرى إخفاقاتهم، وبإمكانك تمییزه من سهولة تحوله إلى الغضب في هذه الحالات إذا لم تسر الأمور على ما یشتهي وهو یصف حیاته بأنها ملأى بالمعارك مع الآخرین، وخیانات الآخرین، واضطهاد الآخرین له؛ والظاهر أن كل ذلك لیس نابعًا منه، وجوهر الأمر أنه یسلط مشاعره العدوانیة على الآخرین، ویعد العدة لقراءتها في غالبیة تصرفاتهم واضحة البراءة، فهدفه في الحیاة هو أن یَشعر بالاضطهاد، وأن یطمح إلى صورة من صور الانتقام بسبب ما یشعر به من ذلك الاضطهاد، وهذا الصنف من الناس یعاني بصورة عامة من مشكلات في حیاتهم المهنیة، بسبب اشتعال غضبهم وعدوانیتهم مرارًا
وتكرارًا، وهذا ما یعطي أحدهم شیئًا إضافیا یشتكي منه، فیلوم على أساسه العالمین جمیعًا لأنهم یقفون ضده.
فإذا لاحظت علامات على هذا الموقف في نفسك فإن هذا الوعي الذاتي یعد خطوة عظیمة لك في طریق التخلص منه، كذلك فإن بمقدورك أن تجرب التجربة البسیطة الآتیة: تعامل مع الناس الذین تقابلهم للمرة الأولى، أو الذین لا تعرفهم إلا معرفة سطحیة، تعامل معهم بأفكار إیجابیة متنوعة من قبیل أنا أحبهم و یبدون من أصحاب الفهم والبراعة ونحو ذلك. ولا تجعل هذه العواطف منطوقة في كلامك؛ بل اعمل جاهدًا على أن تُشعرهم بها، فإذا استجابوا لك بشيء عدواني أو دفاعي فاعلم أن العالم یقف فعلًا ضدك، والراجح أنك لن ترى منهم ما یمكنك تفسیره تفسیرًا سلبیا؛ ولو بدرجة طفیفة؛ فالحق أنك سترى منهم نقیض ذلك أي أنك سترى منهم مواقف
إیجابیة یبادلونك بها مشاعرك الإیجابیة؛ فمن الواضح آنذاك أن مصدر أي استجابة عدوانیة خارج التجربة؛ حیث لا تظهر مشاعرك الإیجابیة إنما هو أنت.
وفي تعاملك مع غلاة هذا الصنف من الناس، اعمل جاهدًا بكل استطاعتك على ألَّا تستجیب لهم بالخصومة والعدائیة التي یتوقعونها فیك؛ بل حافظ على حیادك، فهذا الأمر سیربكهم، ویوقف مؤقتًا اللعبة التي یلعبونها، إنهم یتغذون بعدائیتك، فلا تمدَّنَّهم بهذا الغذاء.
2- الموقف القلق: یتوقع صاحب هذا الموقف ظهور جمیع أنواع العقبات والصعوبات في
أي حالة تواجهه، فإذا تعامل مع الناس فإنه یتوقع منهم شیئًا من الانتقاد، أو حتى الخیانة، وهذه التوقعات تلهب فیه قدرًا هائلًا من القلق، بعیدًا عن الواقع، وما یخافه حق الخوف هو فقدانه السیطرة على الحالة التي یواجهها، والحل عنده تقلیص ما یحتمل حدوثه؛ بتضییق العالم الذي یتعامل معه، وهذا یعني الحد من الأماكن التي یذهب إلیها، والحد من المساعي والجهود التي یحاولها، وفي العلاقة الزوجیة، تراه یهیمن بدقة على طقوس المنزل وعاداته؛ ویبدو علیه الجفاء، والمطالبة بقدر وافر من الاهتمام الدقیق؛ فهذه الأشیاء تثني الآخرین عن انتقاده؛ فكل شيء لا بد أن یخضع لشروطه؛ أما في العمل فتراه من المغالین في توخي الكمال بضراوةِ اللاهثین وراء كل كبیرة وصغیرة؛ فیتلف نفسه في نهایة الأمر بمحاولته البقاء مشرفًا على أشیاء كثیرة جدا؛ فإذا خرج من منطقة ارتیاحه فخرج من المنزل أو العلاقة الزوجیة حیث
یبسط هیمنته فإنه یصبح عبوسًا نكدًا للغایة.
وتراه أحیانًا یموِّه حاجته إلى السیطرة، فیصورها بأنها صورة من صور الحب والاهتمام، فعندما أصیب فرانكلین روزفلت بشلل الأطفال سنة 1921 ، وكان في التاسعة والثلاثین من عمره، عملت والدته (سارة) كل ما بوسعها لتقیید حیاته، فأبقته رهین غرفةٍ في منزله، وكان علیه أن یتخلى عن عمله في السیاسة، ویستسلم لرعایة أمه؛ أما زوجته إیلینور فقد كانت تعرفه بصورة أفضل، فقد كان ما یریده ویحتاجه هو العودة وئیدًا وئیدًا إلى شيء یماثل حیاته قبل مرضه، وتحول الأمر إلى معركة بین الأم وكنَّتها،
وانتهت بفوز الكنَّة في نهایة المطاف، وقد استطاعت الأم تمویه موقفها القلِق، وحاجتها إلى الهیمنة على ابنها، بوساطة حبها الظاهر له، فحولته إلى مُقعَد عاجز.
وهناك تمویه آخر یشبه هذا الحب یتجلى في السعي إلى إرضاء الآخرین ومداهنتهم،
بغیة تعطیلهم عن القیام بأي تصرف غیر متوقع أو غیر ودي،فإذا لاحظت هذه المیول في نفسك فإن أفضل تریاق لها هو أن تصب طاقاتك في عملك، فإذا جعلت اهتمامك كله یخرج إلى خارج نفسك، لتضعه في مشروع ما فسترى في ذلك تأثیرًا مطَمئنًا؛ وما دمت تكبح جماح میول المغالاة في توخي الكمال عندك؛ فبإمكانك توجیه حاجتك إلى السیطرة إلى شيء مثمر؛ فإذا تعاملت مع الناس فحاول أن تفتح نفسك شیئًا فشیئًا على عاداتهم، وتتقبل سرعتهم في أداء أعمالهم، بدلًا من انغلاقك في وجهها، وهذا ما سیبین لك بأنه: ما من شيء تخشاه إذا فقدت السیطرة؛ فضع نفسك بتأنٍّ في الظروف التي تخافها أشد الخوف، لتكتشف بأنك كنت مبالغًا في مخاوفك إلى حدٍّ كبیر، وشیئًا فشیئًا، تُدخِل قدرًا ضئیلًا من الفوضى في حیاتك المفرطة في التنظیم والترتیب.
فإذا تعاملت في تلك الحالات بهذا الموقف فحاول ألا تصیبك عدوى قلق الآخرین، وحاول بدلًا من ذلك أن تقدم لهم التأثیر المطمْئنَ الذي افتقدوه في سنوات مبكرة من حیاتهم؛ فأنت إذا كنت تشع بالسكینة والطمأنینة فسیكون سلوكك أبلغ تأثیرًا من كلماتك.
3- الموقف المتحاشي: یرى أصحاب هذا الموقف العالم بعدسة مخاوفهم التي ترتبط بصورة عامة بكفاءتهم وذكائهم، ولعل أحدهم إذ كان طفلًا كان أبواه یشعرانه بالذنب، ویشعرانه بالانزعاج إذا حاول التفوق على إخوته والبروز علیهم؛ أو كانا یشعرانه بالسوء تجاه أي خطأ یرتكبه، أو تصرف قد یخطئه، فأصبح أعظم ما یخشاه حكم أبویه علیه، فإذا كبر یكون هدفه الأساسي في الحیاة تحاشي أي نوع من المسؤولیة أو التحدي، ما یمكن أن یتعرض فیه اعتزازه بنفسه إلى الخطر، وبذلك یصدر الناس أحكامهم بحقه ، وهو یرى أنه إذا لم یجتهد كثیرًا في هذه الحیاة فإنه لا یمكن أن یخفق، ولن تصیبه سهام الانتقاد.
وتراه في سعیه إلى تنفیذ هذه الإستراتیجیة یبحث باستمرار عن مسارات الهروب بالوعي منه أو دون الوعي منه، وسیعثر على عذر مثالي لترك عمله في وقت مبكر وتغییر مهنته، أو إنهاء علاقته الزوجیة، وتراه وسط مشروع من المشروعات الكبرى الخطیرة یمرض فجأة، مما یجعله یترك المشروع. إنه شخص یستسلم لجمیع أصناف (العلل البدنیة النفسیة )ذات الأعراض البدنیة الناتجة عن عوامل نفسیة، أو تراه یصبح مدمنًا على المسكرات، أو مدمنًا على أي شيء آخر یتلف به نفسه وصحته، فینسل دائمًا من التزاماته في الوقت المناسب له قبل أن تثقِل كاهله، ویلقي باللائمة في ذلك على المرض الذي أصابه، أو على نشأته السیئة إذ كان صغیرًا فأودت به كبیرًا إلى مهاوي الإدمان، وتراه یقول بأنه لولا إدمان المسكرات لكان كاتبًا عظیمًا، أو رجل
أعمال ناجحًا. ومن إستراتیجیاته الأخرى إضاعة الوقت، والتأخر الشدید في أداء عمل ما، وعنده دائمًا عذر تلقائي یبرر به ذلك. وبهذه الأعذار لا یمكن أن یلام على النتائج المتدنیة لعمله.
ومن الصعب على هذا الصنف من الناس الالتزام بأي شيء؛ وذلك لسبب وجیه. فإذا استمر أحدهم في عمل ما، أو في علاقته الزوجیة، فلربما انكشفت عیوبه للآخرین؛ فالأفضل له في نظره الانسلال في اللحظة المناسبة، والمحافظة على الوهم -في نفسه وأمام الآخرین- بعظمته المحتملة لو أنه كذا وكذا ... إنه مدفوع بصورة عامة بخوفه الشدید من الإخفاق، وأحكام الآخرین علیه نتیجة إخفاقه، إنه في قرارة نفسه یخشى النجاح؛ لأن النجاح یجلب معه المسؤولیة، مع ضرورة الوفاء بها، كذلك یمكن للنجاح أن یثیر مخاوفه القدیمة من التفوق على الآخرین والبروز علیهم.
وما أسهل أن تمیز هؤلاء الناس من حیاتهم المهنیة المتقلبة، وعلاقاتهم الزوجیة أو العاطفیة قصیرة الأمد، وربما حاول أحدهم تمویه مصدر مشكلاته بالظهور بمظهر الطاهر الورع؛ فهو یتعالى على النجاح، وعلى الآخرین أن یثبتوا نجاحهم. وغالبًا ما یصور نفسه بأنه المثالي النبیل، فینشر أفكارًا لن تتحقق مطلقًا، لكنها تضیف شیئًا إلى هالة الورع التي یرغب في إبرازها؛ لكن إذا كان علیه تحقیق المثالیات فإنه سیعرض نفسه للانتقاد أو الإخفاق؛ لذلك فإنه یختار المثالیات بعیدة المنال جدا، وغیر الواقعیة مطلقًا في الزمن الذي یعیش فیه؛ فلا یخدعنَّك مظهر صاحب الورع الفائق؛ الذي یصوره لك؛ بل انظر في أفعاله، وانظر في انعدام إنجازاته، وانظر في المشروعات الكبیرة التي لم یشرع فیها یومًا؛ ولدیه العذر الوافي لذلك كله.
وإذا لاحظت آثارًا لهذا الموقف في نفسك فإن من الإستراتیجیات الجیدة التي یمكنك اتباعها للتخلص من هذا الموقف هي أن تأخذ على عاتقك تنفیذ مشروع ما، حتى لو كان صغیرًا جدا، وتكمله حتى نهایته؛ وظنُّ الإخفاقِ فیه لا یفارقك؛ فإذا أنت أخفقت فیه فقد أخمدت مسبقًا نار الإخفاق؛ لأنك توقعته؛ فلن یؤذیك حتمًا بالقدر الذي كنت تتصوره؛ وسیرتفع عندك اعتزازك بنفسك؛ لأنك أخیرًا حاولت أن تقوم بعمل ما، وأتممته. فإذا ضعف هذا الخوف فیك، فإن تقدمك سیكون سهلًا میسرًا، وسترغب في المحاولة من جدید، أما إذا نجحت فیه فخیر على خیر. وأنت الفائز في الحالتین.
وإذا وجدت آخرین من أصحاب هذا الموقف فكن شدید الحذر من إقامة شراكة معهم؛ فهم خبراء في الانسلال في أسوأ اللحظات، لیتركوك تقوم بالعمل الشاق وحدك، ویقع اللوم علیك إذا أنت أخفقت فیه، ومهما كلفك الأمر علیك أن تحاول أن تتحاشى إغواء مساعدتهم، أو إنقاذهم من سلبیتهم؛ فهم بارعون جدا في لعبة التحاشي فإذا أنت ساعدتهم في عمل ما، تنصلوا من العمل برمَّته؛ تاركینك تغرق فیه، فارِّین من تحمل المسؤولیة.
4- الموقف الاكتئابي: هذا الصنف من الناس لم یشعر بحب الأبوین واحترامهما، إذ كان
طفلًا صغیرًا؛ ومن الصعب جدا علینا أن نتصور أن یسيء أبوان في تربیتهما طفلهما
الضعیف، أو یخِلَّا بها، وحتى لو كان الطفل غیر محبوب من أبویه، فإنه مع ذلك یعتمد علیهما؛ ولذلك یكون دفاعه غالبًا باستبطان الحكم السلبي على نفسه، وتصوُّر أنه فعلًا لا یستحق نیل الحب؛ لأن فیه شیئًا خاطئًا حقا، وبهذه الطریقة یتسنى له المحافظة على وهمٍ بأن أبویه شدیدان مقتدران، ویحدث كل ذلك في العقل الباطن تمامًا؛ إلا أن الشعور بانعدام القیمة یلازم صاحبه طیلة حیاته، وهو یشعر في أعماق نفسه بالخزي من نفسه، ولا یعلم حقیقةً سبب شعوره بذلك.
فإذا كبر فإنه یتوقع الهجران، والخسارة، والحزن، في تجاربه في الحیاة، وسیرى في العالم من حوله علاماتٍ على أشیاء یحتمل أن تسبب له الاكتئاب؛ إنه ینجرُّ سرا إلى كل ما هو كئیب في هذا العالم، وإلى كل ما هو بائس في هذه الحیاة، فإذا كان له أن یصنع شیئًا من الاكتئاب الذي یشعر به بهذه الطریقة فهو على الأقل سیكون تحت سیطرته.
وتواسیه فكرة أن العالم ما هو إلا مكان موحش. والإستراتیجیة التي یستخدمها في حیاته
هي الانسحاب المؤقت من الحیاة، والابتعاد عن الناس؛ فهذا الأمر سیغذي الاكتئاب عنده؛ وكذلك یجعل من الاكتئاب شیئًا یمكنه تدبره إلى حدٍّ ما، بخلاف التجارب الصادمة التي تفرض علیه.
فغالبًا ما یكون لدى هذا الصنف من الناس حاجة مستترة لإیلام الآخرین، فیشجع أحدهم سلوكیات بغیضة عند الآخرین، من قبیل الخیانة أو الانتقاد، لتغذي الاكتئاب في نفسه، كذلك فإنه یعمد إلى إتلاف نفسه إذا مرَّ بأي تجربة ناجحة، فیشعر في أعماق نفسه بأنه لا یستحقها، وهو یضع العوائق في عمله، ویحمِل الانتقاد الموجه إلیه على أنه یجب ألا یستمر في مهنته، وغالبًا ما یستطیع هذا الصنف الاكتئابي اجتذاب الناس إلیه، بسبب طبیعته الحساسة؛ فهو یشعل الرغبة في الآخرین لمساعدته، وتقدیم العون له، فإذا وقعت تحت تأثیر أحدهم، فمن الصعب علیك الانفكاك منه دون أن تشعر بالذنب تجاهه؛ فلدى أحدهم موهبة جعل الناس الآخرین یشعرون بالاكتئاب إذا حضر، وهذا ما یزوِّده بقوتٍ یتغذى به.
ومعظمنا لدیه میول للاكتئاب، ولحظاتٌ فیه، وأفضل طریقة للتعامل معها هي الحذر من إلحاحها علینا؛ فتلك هي (أي الاكتئاب) طریقة جسمنا وعقلنا في إجبارنا على الإبطاء في سرعتنا، وتخفیض طاقاتنا، والانسحاب، لكن یمكن لحلقات الاكتئاب أن تحقق غایات إیجابیة، وذلك بإدراكك فائدتها، ومیزتها المؤقتة، فالاكتئاب الذي تشعر به الیوم لن یلازمك بعد أسبوع، وبإمكانك صرفه عنك، فاعثر -إذا أمكنك-
على طرقٍ ترفع بها مستوى الطاقة عندك، فیرتفع مزاجك بتأثیر طاقة جسمك، وأفضل طریقة للتعامل مع الاكتئاب المتكرر هي أن تصبَّ طاقاتك في العمل، وبخاصة في مجال الفنون، فإذا اعتدت على الانسحاب والوحدة؛ فاستخدم ذلك الوقت (في وحدتك)في استخراج عقلك الباطن، فأخرج حساسیتك الكبیرة، ومشاعرك المظلمة، وضعها في عملك. وإیاك أن تحاول رفع معنویات المكتئبین بوعظهم بروعة الحیاة؛ بل الأفضل لك أن تسایرهم في رأیهم المتجهم تجاه العالم، مع سحبك لهم بدقة إلى تجارب حیاتیة إیجابیة،
یمكن لها أن ترفع مزاجاتهم وطاقاتهم؛ دون توجیه العظات المباشرة.
5- الموقف المُستاء: عندما كان هذا الصنف من الناس طفلًا لم یشعر مطلقًا بأنه نال ما یكفیه من حب الأبوین وعاطفتهما؛ بل كان دائم الطمع بالمزید من الاهتمام، وهو یحمل معه طیلة حیاته هذا الإحساسَ بعدم الرضا وخیبة الأمل، وهو لا یكف مطلقًا عن طلب التقدیر الذي یرى أنه یستحقه، وهو خبیر في سبر وجوه الآخرین؛ بحثًا عن علامات محتملة على عدم الاحترام، أو الازدراء، وهو یرى كل شيء یرتبط بنفسه؛ فإذا كان لدى أحد الناس ما هو أكثر مما لدیه فتلك علامة على الظلم؛ وهي إهانة شخصیة له، وإذا شعر بعدم الاحترام وعدم التقدیر له فإنه لا ینفجر غضبًا؛ بل یكون غالبًا حذرًا، ویحب السیطرة على عواطفه، لكن الألم یعتصر داخله، والإحساس بالظلم یزداد شدة وهو یفكر في ذلك، وهو لا ینسى الأمر بسهولة، وفي مرحلة ما سیأخذ بثأره بعمل تخریبي مرسوم بدهاء، أو بالعدوانیة اللافاعلة.
وبما أن لدیه شعورًا مستمرا بأنه قد تعرض للظلم فهو یمیل إلى إسقاط ذلك على العالم، فیرى الظالمین منتشرین في كل مكان؛ وهو بهذه الطریقة كثیرًا ما یصبح زعیمًا لمن یشعرون بالسخط والظلم؛ فإذا حاز القوة بین یدیه فقد یصبح شریرًا حقودًا للغایة، لینفِّس عن استیائه أخیرًا في ضحایًا شتى، وهو بصورة عامة یحمل في نفسه شعور الغطرسة والتكبر؛ فهو فوق الآخرین حتى لو لم یلاحظ أحد ذلك، وتراه یشمخ برأسه عالیًا إلى حدٍّ ما؛ ولدیه بین الحین والآخر نظرة، أو ابتسامة متكلفة خفیفة، توحیان بازدرائه الآخرین. فإذا تقدم في العمر فإنه یمیل إلى الدخول في معارك تافهة دون أن یستطیع أن یكبت تمامًا استیاءه الذي تراكم في نفسه بمرور الزمن، وینفِّر موقفه المریر أكثر الناس منه؛ لذا ینتهي به المطاف غالبًا إلى التجمع مع أولئك الذین لدیهم هذا الموقف ذاته؛ فیكوِّنون بذلك مجتمعًا لهم.
فإذا لاحظت میولًا من الاستیاء في نفسك فخیر تریاق لها هو أن تتعلم أن تنسى أمر آلامك، وخیبات آمالك في الحیاة. ومن الأفضل أن تنفجر غضبًا في اللحظة التي تغضب فیها، حتى لو كان غضبًا لاعقلانیا، ثم تنظر في الإهانات التي لعلك تصورتَها أو بالغت فیها؛ فالناس بصورة عامة لا یلتفتون إلى مصیرك، ولا یعادونك على النحو الذي تتصوره. وقلیل جدا من أفعالهم موجهة فعلًا تجاهك، فتوقف عن النظر إلى كل شيء من زاویة شخصیة؛ أما الاحترام فهو شيء لا بد لك من اكتسابه بإنجازاتك؛ ولیس شیئًا یعطیك الناس إیاه ببساطة لأنك إنسان، فعلیك أن تخرُج من حلقة الاستیاء، بأن تصبح أكثر سماحة تجاه الناس وطبیعتهم البشریة.
وإذا تعاملت مع هذا الصنف من الناس فعلیك أن تعمل بحذر شدید جدا؛ فعلى الرغم من أنه قد یبتسم، أو یبدو سعیدًا، إلا أنه فعلیا یفتش فیك عن أي إهانة محتملة له، وبإمكانك تمییز الواحد من هؤلاء من تاریخ معاركه السابقة، وخلافاته المفاجئة مع الناس، أضف إلى ذلك سهولة إطلاقه الأحكام على الناس، ولعلك تحاول ببطء أن تكسب ثقته، وتخفف من شكوكه؛ لكن احذر من أنه كلما طال مكوثك قربه زاد القوت الذي تغذیه به لیستاء من شيء ما، ویمكن لاستجابته أن تكون وحشیة للغایة، فخیر لك اجتناب هذا الصنف من الناس، ما وجدت إلى ذلك سبیلًا.