الخميس، 5 أغسطس 2010

التوبة 2

التوبة 2

التوبة هي ترك الذنب والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل ، وتفصيل ذلك يستدعى شرح التكليفات من أولها إلى آخرها .
بيان أقسام الذنوب

. قسمة1: اعلم أن الذنوب تقسم إلى ما بين العبد وبين الله تعالى وإلى ما يتعلق بحقوق العباد . وما يتعلق بالعباد فالأمر فيه أغلظ ، وما بين العبد وبين الله تعالى إذا لم يكن شركا فالعفو فيه أرجى وأقرب
قسمة 2 : اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ، وقد كثر اختلاف الناس فيها قال تعالى : ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ﴾ ( النساء : 31 ) . وقال تعالى : ﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ ( النجم : 32) وقال صلى الله عليه وسلم : (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر )) وفى لفظ آخر : (( كفارات لما بينهن إلا الكبائر )) وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص : (( الكبائر : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس )) . وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر الكبائر سبع يقول : هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع . وقال مرة :كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة . وقال غيره : كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر . وقال بعض السلف : كل ما أوجب عليه الحد فى الدنيا فهو كبيرة . وقال ابن مسعود لما سئل عنها : اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾ ( النساء : 31 ) فكل ما نهى الله عنه فى هذه السورة إلى هنا فهو كبيرة . وقال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة : إنكم لتعملون أعمالا هى أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر . وقالت طائفة : كل عمد كبيرة ، وكل ما نهى عنه فهو كبيرة وكشف الغطاء عن هذا أن نظر الناظر في السرقة أهى كبيرة أم لا : لا يصح ، ما لم يفهم معنى الكبيرة ، فالكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع ، وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات ، وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه ، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه ، فالمضاجعة مع الأجنبية بالاضافة إلى النظرة صغيرة بالإضافة إلى الزنا ، وقطع يد المسلم كبيرة إلى ضربة صغيرة بالاضافة إلى قتله . نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة ، ونعنى بوصفه بالكبيرة : أن العقوبة بالنار عظيمة ، وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيرا إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبه واجبة عظيم ، وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهى عنه فيقول : تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه ، ثم يكون عظيما وكبيرة لا محالة ، بالاضافة إذ منصوصات القرآن أيضا تتفاوت درجاتها ، فهذه الإطلاقات لا حرج فيها ، وما نقل من ألفاظ الصحابه يتردد بين هذه الجهات ولا يبعد تنزيلها على شىء من هذه الاحتمالات ، نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تعالى : ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ ( النساء : 31 ) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر )) فإن هذا إثبات حكم الكبائر ، والحق في ذلك أن الذنوب منقسمة في نظر الشرع إلى ما يعلم استعظامه إياها ، وإلى ما يعلم إنها معدودة في الصغائر ، وإلى ما يشك فيه ، فلا يدرى حكمه ، فالطمع في معرفة حد حاصر أو عدد جامع مانع طلب لما لم يمكن ، فإن ذلك لا يمكن إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إني أردت بالكبائر عشرا أو خمسا ويفصلها فإن لم يرد هذا بل ورد في بعض الألفاظ (( ثلاث من الكبائر )) وفي بعضها (( سبع من الكبائر )) علم أنه لم يقصد به العدد بما يحصر ، فكيف يطمع في عدد ما لم يعده الشرع ؟ وربما قصد الشرع ابهامه ليكون العباد منه على وجل ، كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها ،
الكبائر والإبهام أليق به حتى يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرءون على الصغائر اعتمادا على الصلوات الخمس ، وكذلك اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله تعالى : ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ ( النساء : 31 ) ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة ، كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع ،

بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب

اعلم أن الصغيرة تكبر بأسباب : منها الإصرار والمواظبة ، ولذلك قيل : لا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار . فكبيرة واحدة تنصرم ولا يتبعها مثلها لو تصور ذلك كان العفو عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( خير الأعمال أدومها وإن قل ))
فكل كبيرة تكتنفها صغائر سابقة ولا حقة ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم يتفق إليها عود ربما كان العفو فيها أرجى من صغيرة واظب الإنسان عليها عمره . ومنها أن يستصغر الذنب ، فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله تعالى ، لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب عنه وكراهيته له ، وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به ، واستصغاره يصدر عن الألف به ، وذلك يوجب شدة الأثر في القلب ، وقد جاء في الخبر : (( المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره )) ، وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله ، فإذا نظر الى عظم من عصى به رأى الصغيرة كبيرة ، وبهذا الاعتبار قال بعض الصحابة رضى الله عنهم للتابعين : وإنكم لتعملون أعمالا هى في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات . إذ كانت معرفة الصحابة بجلال الله أتم فكانت الصغائر عندهم بالإضافة الى جلال الله تعالى من الكبائر ، وبهذا السبب يعظم من العالم ما لا يعظم من الجاهل ، ويتجاوز عن العامى في أمور لا يتجاوز في أمثالها عن العارف ، لأن الذنب والمخالفة يكبر بقدر معرفة المخالف ، ومنها السرور بالصغيرة والفرح والتبجح بها واعتداد التمكن من ذلك نعمة والغفلة ، عن كونه سبب الشقاوة ، فكلما غلبت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت الصغيرة وعظم أثرها في تسويد قلبه ، حتى ان من المذنبين من يتمدح بذنبه ، ويتبجح به لشدة فرحه بمقارفته إياه ، كما يقول : أما رأيتنى كيف مزقت عرضه ؟ ويقول المناظر في مناظرته : أما رأيتنى كيف فضحته ؟ وكيف ذكرت مساوية حتى أخجلته ؟ وكيف استخففت به ؟ وكيف لبست عليه ؟ ويقول المعامل في التجارة : أما رأيت كيف روجت عليه الزائف ؟ وكيف خدعته ؟ وكيف غبنته في ماله ؟ وكيف استحمقته ؟ فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر ، ، ومنها أن يتهاون بستر الله عليه وحلمه عنه وإمهاله إياه ولا يدرى أنه إنما يمهل مقتا ليزداد بالإمهال إثما ، فيظن أن تمكنه من المعاصى عناية من الله تعالى به ، فيكون ذلك لأمنه من مكر الله وجهله بمكامن الغرور بالله ، كما قال تعالى : ﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ﴾ ( المجادلة : 8 ) ومنها أن يأتى الذنب ويظهره بأن يذكره بعد إتيانه أو يأتيه في مشهد غيره فإن ذلك جناية منه على ستر الله الذى سدله عليه وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه ذنبه أو أشهده فعله ، فهما جنايتان انضمتا الى جنايته فغلظت به ، فإن انضاف الى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه وتهيئة الأسباب له صارت جناية رابعه وتفاحش الأمر ، وفى الخبر : (( كل الناس معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه فيصبح فيكشف ستر الله ويتحدث بذنبه )) وهذا لأن من صفات الله ونعمه أنه يظهر الجميل ويستر القبيح ولا يهتك الستر . فالإظهار كفران لهذه النعمة . وقال بعضهم : لا تذنب فإن كان ولا بد فلا ترغب غيرك فيه فتذنب ذنبين ، ولذلك قال تعالى : ﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ﴾ ( التوبة : 67 ) وقال بعض السلف : ما انتهك المرء من أخيه حرمه أعظم من أن يساعده على معصية ثم يهونها عليه . ومنها أن يكون المذنب عالما يقتدى به فإذا فعله بحيث يرى ذلك منه كبر ذنبه كلبس العالم الإبريسم وركوبه مراكب الذهب ، وأخذه مال الشبهة من أموال السلاطين ، ودخوله على السلاطين وتردده عليهم ومساعدته إياهم بترك الإنكار عليهم وإطلاق اللسان فى الأعراض وتعديه باللسان في المناظرة وقصده الاستخفاف واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه كعلم الجدل والمناظرة . فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا فى العالم آماد متطاولة ، فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه وفى الخبر : (( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئا )) وقال تعالى : ﴿ ونكتب ما قدموا وآثارهم ﴾ ( يس : 12 ) والآثار ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل . وقال ابن عباس : ويل للعالم من الاتباع ، يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق . وقال بعضهم : مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق ويغرق أهلها . وكما تتضاعف أوزارهم على الذنوب فكذلك يتضاعف ثوابهم على الحسنات إذا أتبعوا ، فإذا ترك التجمل والميل الى الدنيا وقنع منها باليسير ، ومن الطعام بالقوت ، ومن الكسوة بالخلق ، فيتبع عليه ويقتدي به العلماء والعوام فيكون له مثل ثوابهم ، وإن مال الى التجمل مالت طباع من دونه الى التشبه به ولا يقدرون على التجمل إلا بخدمة السلاطين وجمع الحطام من الحرام ، ويكون هو السبب في جميع ذلك ، فحركات العلماء في طورى الزيادة والنقصان ، تتضاعف آثارها أما بالربح ، وإما بالخسران .
وأما المعاصى فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره ولسانه وبطنه ويده ورجله وفرجه وسائر جوارحه ، ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ، ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلع على جميعها ؛ صغائرها وكبائرها ثم ينظر فيها ، فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد ، كنظر الى غير محرم وشرب خمر وسماع ملاه وغيره ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد ، فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر ومن حيث المدة ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها فيأتى من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم : (( اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها )) بل من قوله تعالى : ﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ ( هود : 114 ) فيكفر سماع الملاهى بسماع القرآن وبمجالس الذكر ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه ، وعد جميع المعاصى غير ممكن وإنما المقصود سلوك الطريق المضادة فإن المرض يعالج بضده ، فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها ، ، قال صلى الله عليه وسلم : (( من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم )) وفى لفظ آخر (( إلا الهم بطلب المعيشة )) وفى حديث عائشة رضى الله عنها : (( إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم تكن له أعمال تكفرها أدخل الله تعالى عليه الهموم فتكون كفارة لذنوبه )) ويقال : إن الهم الذى يدخل على القلب والعبد لا يعرف هو ظلمه الذنوب والهم بها ،.
، ومظالم العباد إما فى النفوس أو الأموال أو الأعراض أو القلوب أعنى به الإيذاء المحض . أما النفوس فإن جرى عليه قتل خطأ فنوبته بتسليم الدية ووصولها الى المستحق إما منه أو من عاقلته وهو فى عهدة ذلك قبل الوصول ، وإن كان عمدا موجبا للقصاص فبالقصاص ، فإن لم يعرف فيجب عليه أن يتعرف عند ولى الدم ويحكمه فى روحه فإن شاء عفا عنه وإن شاء قتله ولا تسقط عهدته إلا بهذا ، ولا يجوز له الإخفاء وليس هذا كما لو زنى أو شرب أو سرق أو قطع الطريق أو باشر ما يجب عليه فيه حد الله تعالى فإنه لا يلزمه فى التوبة أن يفضح نفسه ويهتك ستره ويلتمس من الوالى استيفاء حق الله تعالى ، بل عليه أن بستر الله تعالى ويقيم حد الله ، على نفسه بأنواع المجاهدة والتعذيب ، فالعفو فى محض حقوق الله تعالى قريب من التائبين النادمين فإن أمر هذه الى الوالى حتى أقام عليه الحد وقع موقعه وتكون توبته صحيحة مقبوله عند الله تعالى بدليل ما روى أن ما عز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنى قد ظلمت نفسى وزنيت ، وإنى أريد أن تطهرنى ، فرده ، فلما كان من الغد اتاه فقال : يا رسول الله إنى قد زنيت ، فرده الثانية ، فلما كان فى الثالثة ، أمر به فحفر له حفرة ثم أمر به فرجم ، فكان الناس فيه فريقين : فقائل يقول لقد هلك وأحاطت به خطيئته ، وقائل يقول ما توبة أصدق من توبته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لو سعتهم )) . وجاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله إنى قد زنيت فطهرنى ، فردها ، فلما كان من الغد قالت : يا رسول الله لم تردنى لعلك تريد أن ترددنى كما رددت ما عزا فو الله إنى لحبلى ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( أما الآن فاذهبي حتى تضعي )) ، فلما ولدت أتت بالصبى فى خرقة فقالت : هذا قد ولدته ، قال : (( اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه )) فلما فطمته أتت بالصبي وفى يده كسرة خبز فقالت : يانبى الله قد فطمته وقد أكل الطعام ، فدفع الصبى إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها ، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجهه فسبها ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال : (( مهلا يا خالد فو الذى نفسى بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له )) ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت .
وأما القصاص وحد القذف : فلا بد من تحليل صاحبه المستحق فيه ، وإن كان المتناول مالا تناوله بغصب أو خيانة أو غبن فى معاملة بنوع تلبيس كترويج زائف أو ستر عيب من المبيع أو نقص أجرة أجير أو منع اجرته فكل ذلك يجب أن يفتش عنه لا من حد بلوغه بل من أول مدة وجوده ، فإن ما يجب فى مال الصبى يجب على الصبي إخراجه بعد البلوغ إن كان الولى قد قصر فيه ، فإن لم يفعل كان ظالما مطالبا به إذ يستوى فى الحقوق المالية الصبي والبالغ وليحاسب نفسه على الحبات والدوانق من أول يوم حياته إلى يوم توبته قبل أن يحاسب فى القيامة ، وليناقش قبل أن يناقش ، فمن لم يحاسب نفسه فى الدنيا طال فى الآخرة حسابه ، فإن حصل مجموع ما عليه بظن غالب ونوع من الاجتهاد ممكن فليكتبه وليكتب أسامى أصحاب المظالم واحدا واحدا ، وليطف فى نواحى العالم وليطلبهم وليستحلهم أو ليؤد حقوقهم ، وهذه التوبة تشق على الظلمة وعلى التجار فإنهم لا يقدرون على طلب المعاملين كلهم ولا على طلب ورثتهم ، ولكن على كل واحد منهم أن يفعل منه ما يقدر عليه فإن عجز فلا يبقى له طريق إلا أن يكثر من الحسنات حتى تفيض عنه يوم القيامة فتؤخذ حسناته وتوضع فى موازين أرباب المظالم ، ولكن كثرة حسناته بقدر كثرة مظالمه فإنه إن لم تف بها حسناته حمل من سيئاته أرباب المظالم فيهلك بسيئات غيره ، فهذا طريق كل تائب فى رد المظالم وهذا يوجب استغراق العمر فى الحسنات لو طال العمر بحسب طول مدة الظلم فكيف وذلك مما لا يعرف ؟ وربما يكون الأجل قريبا ؟ فينبغى أن يكون تشميرة للحسنات ، والوقت ضيق أشد من تشميرة الذى كان فى المعاصى فى متسع الأوقات ، هذا حكم المظالم الثابتة فى ذمته .


أما أمواله الحاضرة : فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكا معينا وما لا يعرف له مالكا فعليه أن يتصدق به ، فإن اختلط الحلال بالحرام فعليه أن يعرف قدر الحرام بالاجتهاد ، ويتصدق بذلك المقدار

وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوؤهم أو يعبهم فى الغيبة فيطلب كل من تعرض له بلسان أو آذى قلبه بفعل من أفعاله وليستحل واحدا واحدا منهم ، ومن مات أو غاب فقد فات أمره ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات لتؤخذ منه عوضا فى القيامة ، وأما من وجده وأحله بطيب قلب منه فذلك كفارته ، وعليه أن يعرفه قدر جنايته ، وتعرضه له فالاستحلال المبهم لا يكفى ، وربما لو عرف ذلك وكثرة تعدية عليه لم تطب نفسه بالإحلال وادخر ذلك فى القيامة ذخيرة يأخذها من حسناته أو يحمله من سيئاته ، فإن كان فى جملة جنايته على الغير ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته كزناه بجاريته أو أهله أو نسبته باللسان إلى عيب من خفايا عيوبه يعظم أذاه مهما شوفة به فقد انسد عليه طريق الاستحلال ، فليس له إلا أن يستحل منها ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميت والغائب .

وفى المتفق عليه من الصحيحين عن أبى سعيد الخدرى أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال : (( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ قال : لا، فقتله ، فكمل به مائة . ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال له : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ قال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلق إلى الأرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله عز وجل فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله . وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط . فأتاهم ملك فى صورة آدمي فجعلوه حكما بينهم فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له . فقاسوا ، فوجوده أدنى إلى الأرض التى أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة )) وفى رواية (( فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها )) وفى رواية (( فأوحى الله تعالى الى هذه أن تباعدى وإلى هذه أن تقربى ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر ، فغفر له )) فبهذا تعرف أنه لاخلاص إلا برجحان ميزان الحسنات ولو بمثقال ذرة ، فلا بد للتائب من تكثير الحسنات ، هذا حكم القصد المتعلق بالماضى .

وأما العزم المرتبط بالاستقبال فهو أن يعقد مع الله عقدا مؤكدا ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها ، ولا يكون تائبا ما لم يتأكد عزمه فى الحال ، ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب فى أول أمره إلا بالعزلة والصمت وقلة الأكل والنوم وإحراز قوت حلال ، فإن كان له مال موروث حلال أو كانت له حرفة يكتسب بها قدر الكفاية فليقتصر عليه ، فإن رأس المعاصى أكل الحرام فكيف يكون تائبا مع الإصرار عليه ، ولا يكتفى بالحلال وترك الشبهات من لا يقدر على ترك الشهوات فى المأكولات والملبوسات



، والخوف إذا كان من فعل ماض أورث الندم ، والندم يورث العزم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الندم توبة )) ولم يشترط الندم على كل ذنب وقال : (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )) ولم يقل التائب من الذنوب كلها .





ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات

شركاء في التغيير

مروا من هنا

Blog Archive

قائمة المدونات الإلكترونية