الخميس، 5 أغسطس 2010

التوبة 3

التوبة -3

والأخبار والآثار فى ذم المعاصى ومدح التائبين لا تحصى ، فينبغى أن يستكثر الواعظ منها


وكذلك حكايات الأنبياء والسلف الصالحين وما جرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم ، فذلك شديد الوقع ظاهر النفع فى قلوب الخلق . مثل أحوال آدم صلى الله عليه وسلم فى عصيانه ، وما لقيه من الإخراج من الجنة ، حتى روى : أنه لما أكل من الشجرة تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته ، فاستحيا التاج والإكليل من وجهه أن يرتفعا عنه ، فجاءه جبريل عليه السلام فأخذ التاج عن رأسه وحل الإكليل عن جبينه ، ونودى من فوق العرش : اهبطا من جوارى فإنه لا يجاورنى من عصانى ، قال : فالتفت آدم إلى حواء باكيا وقال : هذا أول شؤم المعصية أخرجنا من جوار الحبيب.
.

وروى : أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب عليه السلام : أتدرى لم فرقت بينك وبين ولدك يوسف ؟ قال : لا . قال : لقولك لإخوته : ﴿ أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ﴾ (يوسف : 13) لم خفت عليه الذئب ولم ترجنى ، ولم نظرت إلى غفلة إخوته ولم تنظر إلى حفظى له . وتدرى لم رددته عليك؟ قال: لا، قال: لأنك رجوتني وقلت: ﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا﴾ (يوسف : 83) وبما قلت : ﴿اذهبو فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا ﴾ (يوسف : 87) وكذلك لما قال يوسف لصاحب الملك : ﴿اذكرني عند ربك ﴾ (يوسف : 42) ، قال الله تعالى : ﴿فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين﴾ (يوسف : 42) . وأمثال هذه الحكايات لا تنحصر ولم يرد بها القرآن والأخبار ورود الأسحار ، بل الغرض بها الاعتبار والاستبصار لتعلم أن الانبياء عليهم السلام لم يتجاوز عنهم فى الذنوب الصغار فكيف يتجاوز عن غيرهم فى الذنوب الكبار ؟ نعم كانت سعادتهما فى أن عوجلوا بالعقوبة ولم يؤخروا إلى الآخرة ، والأشقياء يمهلون ليزدادوا إثما ولأن عذاب الآخرة أشد وأكبر ، فهذا أيضا مما ينبغى أن يكثر جنسه على أسماع المصرين فإنه نافع فى تحريك دواعى التوبة .

( النوع الثالث ) : أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة فى الدنيا متوقع على الذنوب ، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جناياته ، فرب عبد يتساهل فى أمر الآخرة ويخاف من عقوبة الله فى الدنيا اكثر لفرط جهله ، فينبغى أن يخوف به ، فإن الذنوب كلها يتعجل فى الدنيا شؤمها فى غالب الأمر ، ، حتى إنه قد يضيق على العبد رزقه بسبب ذنوبه وقد تسقط منزلته من القلوب ويستولى عليه أعداؤه ، قال صلى الله عليه وسلم : (( إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )) وقال ابن مسعود : إنى لأحسب أن العبد ينسى العلم بالذنب يصيبه ، وهو معنى قوله عليه السلام : (( من قارف ذنبا فارقه عقل لا يعود إليه أبدا )) .وقال بعض السلف : ليست اللعنة سوادا فى الوجه ونقصا فى المال ، إنما اللعنة أن لا تخرج من ذنب إلا وقعت فى مثله أو شر منه ، وهو كما قال ، لأن اللعنه هى الطرد والإبعاد فإذا لم يوفق للخير ويسر له الشر فقد أبعد ، والحرمان عن رزق التوفيق أعظم حرمان ، وكل ذنب فإنه يدعو إلى ذنب آخر ويتضاعف فيحرم العبد به عن رزقه النافع من مجالسة العلماء المنكرين للذنوب ، ومن مجالسة الصالحين ، بل يمقته الله تعالى ليمقته الصالحون . قال الفضيل : ما أنكرت من تغير الزمان وجفاء الإخوان فذنوبك ورثتك ذلك ، وقال بعضهم : إنى لأعرف عقوبة ذنبى فى سوء خلق حمارى . وقال آخر : أعرف العقوبة حتى فى فأر بيتى

وفى الخبر (( يقول الله تعالى : إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتى أن أحرمه لذيذ مناجاتى ))

واعلم أنه لا يذنب العبد ذنبا إلا ويسود وجه قلبه ، فإن كان سعيدا أظهر السواد على ظاهره لينزجر ، وإن كان شقيا أخفى عنه حتى ينهمك ويستوجب النار . والأخبار كثيرة فى آفات الذنوب فى الدنيا من الفقر والمرض وغيره ، بل من شؤم الذنب فى الدنيا على الجملة أن يكسب ما بعده صفته ، فإن ابتلى بشىء كان عقوبة له ويحرم جميل الرزق حتى يتضاعف شقاؤه ، وإن أصابته نعمة كانت استدراجا له ويحرم جميل الشكر حتى يعاقب على كفرانه ، وأما المطيع فمن بركة طاعته أن تكون كل نعمة فى حقه جزاء على طاعته ويوفق لشكرها ، وكل بلية كفارة لذنوبه وزيادة فى درجاته .



صلى الله عليه وسلم حيث قال له واحد : أوصنى يا رسول الله ولا تكثر على ، قال : (( لا تغضب )) وقال له آخر : أوصنى يا رسول الله ، فقال عليه السلام : (( عليك باليأس مما فى أيدي الناس فإن ذلك هو الغنى ، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر ، وصل صلاة مودع ، وإياك وما يعتذر منه )) وقال رجل لمحمد بن واسع : أوصنى ، فقال : أوصيك أن تكون ملكا فى الدنيا والآخرة ، قال : وكيف لى بذلك ؟ قال : الزم الزهد فى الدنيا . فكأنه صلى الله عليه وسلم توسم فى السائل الأول مخايل الغضب فنهاه عنه وفى السائل الآخر مخايل الطمع فى الناس وطول الأمل . وتخيل محمد بن واسع فى السائل مخايل الحرص على الدنيا ، وقال رجل لمعاذ : أوصنى ، فقال : كن رحيما أكن لك بالجنة زعيما . فكأنه تفرس فيه آثار الفظاظة والغلظة ، وقال رجل لإبراهيم بن أدهم : أوصنى ، فقال : إياك والناس ، وعليك بالناس ، ولا بد من الناس ، فان الناس هم الناس ، وليس كل الناس بالناس ، ذهب الناس وبقى النسناس ، وما أراهم بالناس بل غمسوا فى ماء الياس . فكأنه تفرس فيه آفة المخالطة ، وأخبر عما كان هو الغالب على حاله فى وقته ، وكان الغالب أذاه بالناس ، والكلام على قدر حال السائل أولى من أن يكون بحسب حال القائل . وكتب معاوية رحمه الله إلى عائشة رضى الله عنها : أن اكتبى لى كتابا توصينى فيه ولا تكثري . فكتبت إليه : من عائشة إلى معاوية سلام الله عليك أما بعد ، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ، ومن التمس سخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس )) والسلام عليك . فانظر إلى فقهها كيف تعرضت للآفة التى تكون الولاة بصددها ، وهى مراعاة الناس وطلب مرضاتهم . وكتبت إليه مرة أخرى ، أما بعد : فاتق الله فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس , وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا والسلام . فإذن على كل ناصح أن تكون عنايته مصروفة إلى تفرس الصفات الخفية وتوسم الأحوال اللائقة ليكون اشتغاله بالمهم , فإن حكاية جميع مواعظ الشرع مع كل واحد غير ممكنة والاشتغال بوعظه بما هو مستغن عن التوعظ فيه تضييع زمان .

فإن قلت : فإن كان الواعظ يتكلم فى جمع أو سأله من لا يدرى باطن حاله أن يعظه فكيف يفعل ؟ فاعلم أن طريقة فى ذلك أن يعظه بما يشترك كافة الخلق فى الحاجة إليه , إما على العموم وإلا على الأكثر , فإن فى علوم الشرع أغذية وأدوية فالأغذية للكافة , والأدوية لأرباب العلل . ومثاله ما روى أن رجلا قال لأبى سعيد الخدرى : أوصنى , قال : عليك بتقوى الله عز وجل , فإنها رأس كل خير , وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام , وعليك بالقرآن فإنه نور لك فى أهل الأرض وذكر لك فى أهل السماء وعليك بالصمت إلا من خير , فإنك بذلك تغلب الشيطان . وقال رجل للحسن : أوصنى , فقال : أعز أمر الله يعزك الله . وقال لقمان لابنه : يا بنى زاحم العلماء بركبتيك ولا تجادلهم فيمقتوك , وخذ من الدنيا بلاغك , وأنفق فضول كسبك لآخرتك , ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالا , وعلى أعناق الرجال كلا , وصم صوما يكسر شهوتك , ولا تصم صوما يضر بصلاتك , فإن الصلاة أفضل من الصوم , ولا تجالس السفيه , ولا تخالط ذا الوجهين . وقال أيضا لابنه : يا بنى لا تضحك من غير عجب , ولا تمش فى غير أرب , ولا تسأل عما لا يعنيك , ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك , فإن مالك ما قدمت ومال غيرك , ما تركت , يا بنى إن من يرحم يرحم , ومن يصمت يسلم , ومن يقل الخير يغنم , ومن يقل الشر يأثم , ومن لا يملك لسانه يندم . وقال رجل لأبى حازم : أوصنى , فقال : كل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته غنيمة فالزمه , وكل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته مصيبة فاجتنبه . وقال موسى للخضر عليهما السلام : أوصنى , فقال : كن بساما ولا تكن غضابا , وكن نفاعا ولا تكن ضرارا , وانزع عن اللجاجة , ولا تمش فى غير حاجة , ولا تضحك من غير عجب , ولا تعير الخطائين بخطاياهم , وابك على خطيئتك يا ابن عمران . وقال رجل لمحمد بن كرام : أوصنى , فقال : اجتهد فى رضا خالقك بقدر ما تجتهد فى رضا نفسك . وقال رجل لحامد اللفاف : أوصنى , فقال : اجعل لدينك غلافا كغلاف المصحف أن تدنسه الآفات , قال : وما غلاف الدين ؟ قال : ترك طلب الدنيا إلا مالا بد منه , وترك كثرة الكلام إلا فيما لا بد منه , وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه . وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رحمهم الله تعالى أما بعد : فخف مما خوفك الله , وأحذر مما حذرك الله , وخذ مما فى يديك لما بين يديك , فعند الموت يأتيك الخبر اليقين والسلام . وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن يسأل أن يعظه , فكتب إليه : أما بعد , فإن الهول الأعظم والأمور المفظعات أمامك , ولا بد لك من مشاهدة ذلك , إما بالنجاة وإما بالعطب , واعلم أن من حاسب نفسه ربح , ومن غفل عنها خسر , ومن نظر فى العواقب نجا , ومن أطاع هواه ضل , ومن حلم غنم , ومن خاف أمن , ومن أمن اعتبر , ومن اعتبر أبصر , ومن أبصر فهم , ومن فهم علم , فإذا زللت فارجع , وإذا ندمت فاقلع , وإذا جهلت فاسأل , وإذا غضبت فأمسك . وكتب مطرف بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله : أما بعد , فإن الدنيا دار عقوبة ولها يجمع من من لا عقل له , وبها يغتر من لا علم عنده , فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوى جرحه , يصبر على شدة الدواء لما يخاف من عاقبة الداء . وكتب عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه إلى عدى بن أرطاة : أما بعد , فإن الدنيا عدوة أولياء الله , وعدوة أعداء الله , فأما أولياؤه فغمتهم , وأما أعداؤه فغرتهم . وكتب أيضا إلى بعض عماله : أما بعد , فقد أمكنتك القدرة من ظلم العباد , فإذا هممت بظلم أحد فاذكر قدرة الله عليك , واعلم أنك لا تأتى إلى الناس شيئا إلا كان زائلا عنهم باقيا عليك , واعلم أن الله عز وجل آخذ للمظلومين من الظالمين والسلام . فهكذا ينبغى أن يكون وعظ العامة ووعظ من لا يدرى خصوص واقعته , فهذه المواعظ مثل الأغذية التى يشترك الكافة فى الانتفاع بها . ولأجل فقد مثل هؤلاء الوعاظ انحسم باب الاتعاظ وغلبت المعاصى واستسرى الفساد , وبلى الخلق بوعاظ يزخرفون أسجاعا وينشدون أبياتا ويتكلفون ذكر ما ليس فى سعة علمهم , ويتشبهون بحال غيرهم فسقط عن قلوب العامة وقارهم , ولم يكن كلامهم صادرا من القلب ليصل إلى القلب , بل القائل متصلف , والمستمع متكلف وكل واحد منهما مدبر ومتخلف فإذن كان طلب الطبيب أول علاج المرضى , وطلب العلماء أول علاج العاصين . فهذا أحد أركان العلاج وأصوله .

(الأصل الثانى) الصبر . ووجه الحاجة إليه أن المريض إنما يطول مرضه لتناوله ما يضره , وإنما يتناول ذلك : إما لغفلته عن مضرته , وإما لشدة غلبة شهوته , فله سببان فما ذكرناه هو علاج الغفلة , فيبقى علاج الشهوة , وطريق علاجها قد ذكرناه فى كتاب رياضة النفس , وحاصله أن المريض إذا اشتدت ضراوته لمأكول مضر فطريقة أن يستشعر عظم ضرره , ثم يغيب ذلك عن عينه فلا يحضره , ثم يتسلى عنه بما يقرب منه فى صورته ولا يكثر ضررة . ثم يصبر بقوة الخوف على الألم الذى يناله فى تركه فلا بد على كل حال من مرارة الصبر , فكذلك يعالج الشهوة فى المعاصى . كالشاب مثلا إذا غلبته الشهوة فصار لا يقدر على حفظ عينه ولا حفظ قلبه أو حفظ جوارحه فى السعى وراء شهوته , فينبغى أن يستشعر ضرر ذنبه بأن يستقرى المخلوقات التى جاءت فيه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا اشتد خوفه تباعد من الأسباب المهيجة لشهوته , ومهيج الشهوة من خارج هو حضور المشتهى والنظر إليه , وعلاجه الهرب والعزلة ومن داخل : تناول لذائذ الأطعمة , وعلاجه الجوع والصوم الدائم , وكل ذلك لا يتم إلا بصبر , ولا يصبر إلا عن خوف , ولا يخاف إلا عن علم , ولا يعلم إلا عن بصيرة وافتكار أو عن سماع وتقليد , فأول الأمر حضور مجالس الذكر , ثم الاستماع من قلب مجرد عن سائر الشواغل مصروف إلى السماع , ثم التفكر فيه لتمام الفهم , وينبعث من تمامه لا محالة خوفة , وإذا قوى الخوف تيسر بمعونته الصبر , وانبعثت الدواعى لطلب العلاج , وتوفيق الله وتيسيره من وراء ذلك . فمن أعطى من قلبه حسن الإصغاء , واستشعر الخوف فاتقى وانتظر الثواب وصدق بالحسنى فسييسره والله تعالى لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسييسره الله للعسرى , فلا يغنى عنه ما اشتغل به من ملاذ الدنيا مهما هلك وتردى . وما على الأنبياء إلا شرح طرق الهدى وإنما لله الآخرة والأولى .

فإن قلت : فقد رجع الأمر كله إلى الإيمان لأن ترك الذنب لا يمكن إلا بالصبر عنه ، والصبر لا يمكن إلا بمعرفة الخوف ، والخوف لا يكون إلا بالعلم ، والعلم لا يحصل إلا بالتصديق بعظم بعزم ضرر الذنوب والتصديق بعظم ضرر الذنوب هو تصديق الله ورسوله وهو الإيمان ، فكأن من أصر على الذنب لم يصر عليه إلا لأنه غير مؤمن ؟ فاعلم أن هذا لا يكون لفقد الإيمان بل يكون لضعف الإيمان ، إذ كل مؤمن مصدق بأن المعصية سبب البعد من الله تعالى وسبب العقاب في الآخرة ، ولكن سبب وقوعه في الذنب أمور . ( أحدها ) أن العقاب الموعود غيب ليس بحاضر ، والنفس جبلت متأثرة بالحاضر ، فتأثرها بالموعود ضعيف بالإضافة إلى تأثرها بالحاضر . ( الثانى ) أن الشهوات الباعثة على الذنوب لذاتها ناجزة ، وهى في الحال آخذة بالمخنق وقد قوى ذلك واستولى عليها بسبب الاعتياد ، والإلف - والعادة طبيعة خامسة - والنزوع عن العاجل لخوف الآجل شديد على النفس ، ولذلك قال تعالى : ﴿ كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ﴾ (القيامة : 20 ، 21) ، وقال عز وجل : ﴿ بل تؤثرون الحياة الدنيا ﴾ (الأعلى : 16) وقد عبر عن شدة الأمر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات )) وقوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله تعالى خلق النار فقال لجبريل عليه السلام : اذهب فانظر إليها ، فنظر فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها ، فحفها بالشهوات ثم قال : اذهب فانظر اليها ، فنظر فقال : وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها . وخلق الجنة فقال لجبريل عليه السلام : اذهب فانظر إليها ، فنظر فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، فحفها بالمكاره ثم قال : اذهب فانظر إليها ، فنظر إليها فقال : وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد )) فإذا كون الشهوة مرهقة فى الحال ، وكون العقاب متأخرا إلى المآل سببان ظاهران فى الاسترسال مع حصول أصل الإيمان ، فليس كل من يشرب فى مرضه ماء الثلج لشدة عطشه مكذبا بأصل الطب ولا مكذبا بأن ذلك مضر فى حقه ، ولكن الشهوة تغلبه ، وألم الصبر عنه ناجز فيهون عليه الألم المنتظر . ( الثالث ) أنه ما من مذنب مؤمن إلا وهو فى الغالب عازم على التوبة وتكفير السيئات بالحسنات ، وقد وعد بأن ذلك يخبره إلا أن طول الأمل غالب على الطباع فلا يزال يسوف التوبة والتكفير ، فمن حيث رجاؤه التوفيق للتوبة ربما يقدم عليه مع الإيمان . ( الرابع ) أنه ما من مؤمن موقن إلا وهو معتقد أن الذنوب لا توجب العقوبة إيجابا لا يمكن العفو عنها ، فهو يذنب وينتظر العفو عنها اتكالا على فضل الله تعالى . فهذه أسباب أربعة موجبة للإصرار على الذنب مع بقاء أصل الإيمان . نعم قد يقدم المذنب بسبب خامس يقدح فى أصل إيمانه وهو كونه شاكا فى صدق الرسل وهذا هو الكفر ، كالذى يحذره الطبيب عن تناول ما يضره فى المرض ، فإن كان المحذر ممن لا يعتقد فيه أنه عالم بالطب فيكذبه أو يشك فيه فلا يبالى به فهذا هو الكفر .

فإن قلت : فما علاج الأسباب الخمسة ؟ فأقول : هو الفكر ، وذلك بأن يقرر على نفسه فى السبب الأول ، وهو تأخر العقاب أن كل ما هو آت آت ، وأن غدا للناظرين قريب ، وأن الموت أقرب إلى كل أحد من شراك نعله ، فما يدريه لعل الساعة قريب ، والمتأخر إذا وقع صار ناجزا ويذكر نفسه أنه أبدا فى دنياه يتعب فى الحال لخوف أمر فى الاستقبال ، إذ يركب البحار ويقاسى الاسفار لأجل الربح الذى يظن أنه قد يحتاج إليه فى ثانى الحال ، بل لو مرض فأخبره طبيب نصرانى بأن شرب الماء البارد يضره ويسوقه إلى الموت ، وكان الماء البارد ألذ الأشياء عنده تركه ، مع أن الموت ألمه لحظة إذا لم يخف ما بعده ، ومفارقته للدنيا لا بد منها فكم نسبة وجوده فى الدنيا إلى عدمه أزلا وأبدا ؟ فلينظر كيف يبادر إلى ترك ملاذه بقول ذمى لم تقم معجزة على طبه فيقول : كيف يليق بعقلى أن يكون قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات عندي دون قول نصرانى يدعى الطب لنفسه بلا معجزة على طبه ولا يشهد له إلا عوام الخلق ؟ وكيف يكون عذاب النار عندي أخف من عذاب المرض وكل يوم فى الآخرة بمقدار خمسين ألف سنة من أيام الدنيا ؟ وبهذا التفكر بعينه يعالج اللذة الغالبة عليه ، ويكلف نفسه تركها ويقول : إذا كنت لا أقدر على ترك لذاتى أيام العمر وهى أيام قلائل فكيف أقدر على ذلك أبد الآباد ؟ وإذا كنت لا أطيق ألم الصبر ، فكيف أطيق ألم النار ؟ وإذا كنت لا أصبر عن زخارف الدنيا مع كدوراتها وتنغصها وامتزاج صفوها بكدرها فكيف أصبر عن نعيم الآخرة ؟ وأما تسويف التوبة فيعالجه بالفكر فى أن أكثر صياح أهل النار من التسويف ، لأن المسوف يبنى الأمر على ما ليس إليه وهو البقاء فلعله لا يبقى ، وإن بقى فلا يقدر على الترك غدا ، كما لا يقدر عليه اليوم ، فليت شعرى هل عجز فى الحال إلا لغلبة الشهوة ، والشهوة ليست تفارقه غدا ، بل تتضاعف إذ تتأكد بالاعتياد ، فليست الشهوة التى أكدها الإنسان بالعادة كالتى لم يؤكدها ، وعن هذا هلك المسوفون لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين ، ولا يظنون أن الأيام متشابهة فى أن ترك الشهوات فيها أبدا شاق . وما مثال المسوف إلا مثاله من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة فقال : أؤخرها سنة ثم أعود إليها ، وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها ، وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه ، فلا حماقة فى الدنيا أعظم من حماقته ، إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو فى نفسه وقوى الضعيف .

وأما المعنى الرابع : وهو انتظار عفو الله تعالى . فعلاجه ما سبق ، وهو كمن ينفق جميع أمواله ويترك نفسه وعياله فقراء منتظرا من فضل الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز فى أرض خربة ، فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان ، وهو مثل من يتوقع النهب من الظلمة فى بلدة وترك ذخائر أمواله فى صحن داره ، وقدر على دفنها وإخفائها فلم يفعل ، وقال : أنتظر من فضل الله تعالى أن يسلط غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب حتى لا يتفرغ إلى دارى أو إذا انتهى إلى دارى مات على باب الدار ، فإن الموت ممكن والغفلة ممكنة ، وقد حكى فى الأسمار أن مثل ذلك وقع فأنا أنتظر من فضل الله مثله . فمنتظر هذا منتظر أمر ممكن ولكنه فى غاية الحماقة والجهل ، إذ قد لا يمكن ولا يكون .

وأما الخامس : وهو شك ، فهذا كفر ، وعلاجه الأسباب التى تعرفة صدق الرسل ، وذلك يطول . ولكن يمكن أن يعالج بعلم قريب يليق بحد عقله ، فيقال له : ما قاله الأنبياء المؤيدون بالمعجزات هل صدقة ممكن أو تقول : أعلم أنه محال كما أعلم استحالة شخص واحد ؟ فى مكانين فى حالة واحدة فإن قال : أعلم استحالته كذلك فهو أخرق معتوه , وكأنه لا وجود لمثل هذا فى العقلاء ، وإن قال : أنا شاك فيه , فيقال : لو أخبرك شخص واحد مجهول عند تركك طعامك فى البيت لحظة أنه ولغت فيه حية وألقت سمها فيه وجوزت صدقة فهل تأكله أو تتركه وإن كان ألذ الأطعمة , فيقول : أتركه لا محالة لأنى أقول : إن كذب فلا يفوتنى إلا هذا الطعام والصبر عنه , وإن كان شديدا فهو قريب , وإن صدق فتفوتنى الحياة ، والموت بالإضافة إلى ألم الصبر عن الطعام وإضاعته شديد ، فيقال له : يا سبحان الله كيف تؤخر صدق الأنبياء كلهم مع ما ظهر لهم من المعجزات وصدق كافة الأولياء والعلماء والحكماء بل جميع أصناف العقلاء - ولست أعنى بهم جهال العوام بل ذوى الألباب - عن صدق رجل واحد مجهول لعل له غرضا فيما يقول ؟ فليس فى العقلاء إلا من صدق باليوم الآخروأثبت ثوابا وعقابا وإن اختلفوا فى كيفيته ، فإن صدقوا فقد أشرفت على عذاب يبقى أبد الآباد ، وإن كذبوا فلا يفوتك إلا بعض شهوات هذه الدنيا الفانية المكدرة فلا يبقى له توقف إن كان عاقلا مع هذا الفكر إذ لا نسبة لمدة العمر إلى أبد الآباد ، بل لو قدرنا الدنيا مملوءة بالذرة وقدرنا طائرا يلتقط فى كل ألف ألف سنة حبة واحدة منها لفنيت الذرة ولم ينقص أبد الآباد شيئا ، فكيف يفتر رأى العاقل فى الصبر عن الشهوات مائة سنة مثلا لأجل سعادة تبقى أبد الآباد ؟ ولذلك قال أبو العلاء أحمد بن سليمان التنوخى المعري :

قال المنجـم والطبيـب كلاهمـا لا تبعـث الأمـوات قلت إليكما

إن صـح قولكمـا فلست بخاسر أو صـح قولى فالخسار عليكمـا

لذلك قال على رضى الله عنه لبعض من قصر عقله عن فهم تحقيق الأمور وكان شاكا : إن صح ما قلت فقد تخلصنا جميعا وإلا فقد تخلصت وهلكت ! أى العاقل يسلك طريق الأمن فى جميع الأحوال .

فإن قلت : هذه الأمور جلية ولكنها ليست تنال إلا بالفكر فما بال القلوب هجرت الفكر فيها واستثقلته ؟ وما علاج القلوب لردها إلى الفكر لا سيما من آمن بأصل الشرع وتفصيله ؟ فاعلم أن المانع من الفكر أمران ( أحدهما ) أن الفكر النافع هو الفكر فى عقاب الآخرة وأهوالها وشدائدها وحسرات العاصين فى الحرمان عن النعيم المقيم ، وهذا فكر لداغ مؤلم للقلب فينفر القلب عنه ويتلذذ بالفكر فى أمور الدنيا على سبيل التفرج والاستراحة . ( والثاني ) أن الفكر شغل فى الحال مانع من لذائذ الدنيا وقضاء الشهوات ، وما من إنسان إلا وله فى كل حالة من أحواله ونفس من أنفاسه شهوة قد تسلطت عليه واسترقته فصار عقله مسخرا لشهوته فهو مشغول بتدبير حيلته ، وصارت لذته فى طلب الحيلة فيه أو فى مباشرة قضاء الشهوة والفكر يمنعه من ذلك . أما علاج هذين المانعين : فهو أن يقول لقلبه : ما أشد غباوتك فى الاحتراز من الفكر فى الموت وما بعده تألما بذكره مع استحقار ألم مواقعته ، فكيف تصبر على مقاساته إذا وقع وأنت عاجز عن الصبر على تقدير الموت وما بعده ومتألم به ؟ وأما الثانى وهو كون الفكر مفوتا للذات الدنيا : فهو أن يتحقق أن فوات لذات الآخرة أشد وأعظم ، فإنها لا آخر لها ولا كدورة فيها ، ولذات الدنيا سريعة الدثور ، وهى مشوبة بالمكدرات ، فما فيها لذة صافيه عن كدر ، وكيف وفى التوبة عن المعاصى والإقبال على الطاعة تلذذ بمناجاة الله تعالى واستراحة بمعرفته وطاعته وطول الأنس به ؟ ولو لم يكن للمطيع جزاء على عمله إلا ما يجده من حلاوة الطاعة وروح الأنس بمناجاة الله تعالى لكان ذلك كافيا ، فكيف بما ينضاف إليه من نعيم الآخرة ؟ نعم هذه اللذة لا تكون فى ابتداء التوبة ، ولكنها بعد ما يصير عليها مدة مديدة ، وقد صار الخير ديدنا ، كما كان الشر ديدنا ، فالنفس قابلة - ما عودتها تتعود - والخير عادة والشر لجاجة .

فإذن هذه الأفكار هى المهيجة للخوف المهيج لقؤة الصبر عن اللذات ، ومهيج هذه الأفكار وعظ الوعاظ وتنبيهات تقع للقلب بأسباب تتفق لا تدخل فى الحصر ، فيصير الفكر موافقا للطبع فيميل القلب إليه ، ويعبر عن السبب الذى أوقع الموافقة بين الطبع والفكر الذى هو سبب الخير بالتوفيق ، إذ التوفيق هو التأليف بين الإرادة ، وبين المعنى الذى هو طاعة نافعة فى الآخرة ، وقد روى فى حديث طويل : أنه قام عمار بن ياسر فقال لعلي بن ابى طالب كرم الله وجهه : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الكفر على ماذا بنى ؟ فقال على رضى الله عنه : بنى على أربع دعائم : على الجفاء ، والعمى ، والغفلة ، والشك ، فمن جفا احتقر الحق وجهر بالباطل ومقت العلماء ،ن ومن عمى نسى الذكر ، ومن غفل حاد عن الرشد ، ومن شك غرته الأمانى فأخذته الحسرة والندامة وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب ،

هذا قليل من كثير عن التوبة وهو مختصر كتاب التوبة للإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله


ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات

شركاء في التغيير

مروا من هنا

Blog Archive

قائمة المدونات الإلكترونية